مراسيم العفو الأسدية- تلاعب سياسي وتجاهل لحقوق السوريين.

المؤلف: هادي البحرة10.06.2025
مراسيم العفو الأسدية- تلاعب سياسي وتجاهل لحقوق السوريين.

منذ انبثاق الثورة السورية في عام 2011، ما زالت سوريا ترزح تحت وطأة أزمات سياسية وإنسانية متلاحقة. ومع تعاقب الأيام، تبدّى بوضوح أن نظام بشار الأسد لا يضمر أي نية لتغيير مساره أو الانخراط في عملية سياسية تقود إلى حل متكامل ودائم.

من بين أبرز الأدوات التي يستعملها النظام للتلاعب بالساحة السياسية إصدار مراسيم عفو تستهدف المعتقلين السياسيين والشباب في سن الخدمة العسكرية الذين فروا من التجنيد الإجباري. يزعم النظام أن هذه المراسيم ما هي إلا خطوات ترمي إلى المصالحة، إلا أن الحقيقة مغايرة تمامًا لهذا الزعم.

يمثل المرسوم التشريعي رقم 27، الذي صدر في 22 أيلول/سبتمبر، المرسوم الرابع والعشرين من نوعه منذ اندلاع الثورة السورية، وهو يعكس الاستراتيجية التي يتبعها النظام باستمرار للتهرب من الضغوط السياسية والمماطلة في تقديم تنازلات جوهرية من شأنها تحقيق حل سياسي حقيقي.

يستخدم الأسد هذه المراسيم كأداة لخداع المجتمع الدولي وتضليله، وإيهامه بأنه يسعى جاهدًا لتحقيق الاستقرار والوئام.

إلا أن التدقيق المتأني في هذه المراسيم يكشف النقاب عن أنها تترك فسحة واسعة للأجهزة الأمنية للتلاعب بمصائر الأفراد الذين يفترض أنهم مشمولون بالعفو. فعلى الرغم من أن المراسيم تنص بظاهرها على العفو عن بعض الجرائم، إلا أن التهم الكيدية التي يلفقها النظام لمعارضيه السياسيين، على غرار "الإرهاب" و"الخيانة العظمى"، لا تزال مستثناة من هذا العفو. وهذا يعني، بكل وضوح، أن أغلبية المعتقلين السياسيين والناشطين يظلون خارج نطاق هذه المراسيم، مما يجعلها ضربًا من العبث وغير قادرة على توفير بيئة آمنة لعودة اللاجئين.

تكمن العلة الأساسية التي تشوب هذه المراسيم في غياب الرقابة القضائية المستقلة. إذ تمنح هذه المراسيم الأجهزة الأمنية سلطة مطلقة في تحديد من يحق له الاستفادة من العفو، مما يخلق مناخًا ملائمًا لارتكاب انتهاكات صارخة لحقوق الإنسان. وبدلًا من أن تكون هذه المراسيم وسيلة لإنفاذ العدالة، فإنها تُستغل كأدوات للابتزاز واستدراج المعارضين الذين قد يظنون، عن غير صواب، أن النظام جاد في مساعيه المزعومة نحو المصالحة الوطنية.

شهدت التجارب السابقة أن العديد من العائدين واجهوا الاعتقال والتعذيب، بل حتى الاغتيال، فور عودتهم إلى المناطق التي تخضع لسيطرة النظام.

لقد أثبتت دمشق، مرارًا وتكرارًا، عدم استعدادها للانخراط في عملية سياسية حقيقية، بل إنها تفضل التلاعب بالأدوات القانونية والسياسية بهدف تأجيل أي حل حقيقي، مع الاستمرار في تعزيز قبضتها على السلطة عبر القوة العسكرية والدعم الخارجي اللامحدود.

وتبقى قرارات الأمم المتحدة، على غرار قرار مجلس الأمن رقم 2254 الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار والشروع في عملية انتقال سياسي، مجرد حبر على ورق بالنسبة للنظام، إذ يرفض الالتزام بأي مسار يؤدي إلى انتقال السلطة، ويأبى إجراء أي تغييرات جذرية في مؤسسات الدولة، لا سيما بعد أن فقد جزءًا كبيرًا من سيادته لصالح حلفائه الأجانب.

في ضوء هذه المعطيات، يجب على المجتمع الدولي أن يدرك تمام الإدراك أن هذه المراسيم التي يصدرها الأسد ليست سوى محاولات بائسة للتهرب من متطلبات الحل السياسي. إن الاستمرار في توفير المزيد من الفرص للنظام لتغيير سلوكه لا يعدو كونه مضيعة للوقت ويزيد من تفاقم معاناة الشعب السوري.

يتعين على المجتمع الدولي أن يتخذ موقفًا أكثر صرامة وحزمًا، وأن يربط أي تعامل مع دمشق بإحراز تقدم ملموس ومحسوس في العملية السياسية، بما في ذلك البدء في انتقال سياسي يضمن حقوق جميع السوريين ويحقق العدالة والمحاسبة.

لا يمكن لسوريا أن تخرج من دوامة الحرب والمعاناة إلا من خلال حل سياسي شامل يستند إلى قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. ويجب أن يتضمن هذا الانتقال السياسي تشكيل هيئة حكم انتقالية تتمتع بكامل الصلاحيات التنفيذية، بحيث تمثل جميع أطياف الشعب السوري، وتتمكن من تنظيم انتخابات حرة ونزيهة تحت إشراف الأمم المتحدة. وفي غياب هذه الإجراءات الحاسمة، ستبقى سوريا غارقة في الفوضى، وسيستمر النظام في استخدام الأدوات القانونية والسياسية للتلاعب بمصير الشعب السوري.

إن الشعب السوري الأبي، الذي ناضل على مدى سنوات طويلة من أجل حقوقه الأساسية في الحرية والكرامة والعدالة، لن يرضى بحلول منقوصة أو تسويات هزيلة. ما تتطلبه المرحلة الراهنة هو عملية سياسية حقيقية تضع حدًا لمعاناة ملايين السوريين داخل البلاد وخارجها، وتستأصل السياسات الممنهجة التي يتبعها النظام في القمع والاعتقال التعسفي والتعذيب. وكلما طال أمد تأخير الحل السياسي، ازدادت الأزمات الإنسانية استفحالًا وتدهورًا.

في نهاية المطاف، يظل الحل السياسي هو المسار الوحيد لاستعادة السلام المنشود في سوريا وضمان استقرارها المنشود. فلا يمكن للنظام أن يستمر في الاعتماد على مراسيم العفو لتأجيل سقوطه المحتوم، كما لا يجوز للمجتمع الدولي أن يظل مكتوف الأيدي إزاء هذه المحاولات العابثة والمخادعة.

يجب على جميع الأطراف المعنية، على الصعيدين المحلي والدولي، أن تتحمل مسؤولياتها بجدية وإخلاص، وأن تعمل بدأب وتفانٍ لتحقيق حل سياسي عادل ومستدام يضمن حقوق جميع السوريين، ويعيد بناء الدولة على أسس ديمقراطية راسخة.

 

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة